مراراً وتكراراً في الشهرين الماضيين، تحولتُ إلى تألق مؤلفين مثل رودني وأنجيلا ديفيس وفريد هامبتون الذين يبدو من موقفهم الماركسيّ الأسود أنهم الوحيدون المستعدّون لفهمٍ مُجملٍ يجب على سؤال أين أصبحت الولايات المتحدة اليوم
مذكرات من ليلة في الـ'برونكس'""
بدأت أنا ورفيقي بالتجمع في الساعة السادسة والنصف من ذلك المساء، في الـHub وهو تقاطع في جنوب حيّ برونكس عادة ما يعجّ بالحياة، ولكنّ تلك الأيّام والأمسيات المكتظة بالناس والحياة تقلّصت إلى ما لا يزيد عن بضعة صفوف من واجهات المحلات التجارية المغلقة وتجمّعات لبعض البرونكسيين العاطلين عن العمل، غالباً ما كانوا يضعون على وجوههم أقنعة غير تلك التي أصبح الجميع يرتدونها بعد الكورونا. على المنصّة وقفَت منظِّمَتا التجمّع - إمرأتان من الحي ذواتا أصول إفريقية - ثمّ أخذتا مكبّر الصوت وتمكّنا بقوّة الكاريزما وبشغفهما الصادق من حشد الناس للتفاعل معهما. استمعنا إلى الخطب النارية التي جمعت بين النظرية ودروس من التاريخ ونداءات من أجل سلامة المجتمع ووالتكافل والعدالة. وعلى الرّغم من أنّنا كنا ما زلنا مفجوعين بعد القتل الوحشي لجورج فلويد ولعددٍ آخر لا يوجد من يحصيه من الأمريكيين السود المهمّشين على يد عناصر الشرطة، إلّا أنّ المسيرة كانت بعيدة كل البعد عن "الاكتئاب". كان التجمّع والهتافات والشعارات كلّها تنفّس عن ضيق صدورنا وتنشر بعض الأمل في الهواء، كما هي دائماً روح البرونكس المكافحة التي لا تهزم أبداً، والتي جعلت مسيرتنا وهتافاتنا تزداد زخماً وعدداً بينما كنا نسير في شوارع الحيّ وننتقل من مشروع سكني إلى آخر.
حتى قمنا بالاستدارة نحو الشارع 136، حوالي السابعة وأربعين دقيقة مساءً. أردنا عبور التقاطع ودخول "Millbrook Houses"، مشروع سكنيّ آخر، لاستكمال الزخم. لكنّ وقوف 50 عنصراً من ضبّاط شرطة نيويورك وهم يرتدون معدّات مكافحة الشغب الكاملة، من دروع كيفلار وأقنعة الحماية والعصيّ ومدافع القنابل الدخانية وكلّ شيء إلّا أقنعة الوقاية من الكورونا، جعل مسيرتنا تتوقف هناك. كانت الشمس على وشك الغروب حين بدأت الهتافات تهبط شيئاً فشيئاً من المطالب الكبرى نحو "دعونا نمرّ"، حينما دوّى إعلانٌ فوق رؤوس المحتشدين: "معكم قسم شرطة مدينة نيويورك. تمّ الإعلان عن حظر التجوال حتى الساعة 8 مساءً. أيّ شخص يتمّ العثور عليه في الشارع بعد هذا الوقت قد يتعرّض لتهم جنائية". ركضتُ أنا وصديقي إلى الجزء الخلفي من الحشد فتمّ منعنا وقطع الطريق علينا. بدأت عربات الشرطة والأصفاد المعلّقة بالظهور على أرض الواقع، وقبل سريان مفعول حظر التجوّل بفترة وجيزة، تردّد صدى عبوات الغاز المسيّل للدموع فوق منازل ميلبروك. الآن نحن في مؤخّر الحشد، استدرتُ فرأيتُ فوضى مطلقة: مئات الأطفال يحاولون الركض في كلّ اتّجاه، مطوّقين من قبل صَفّين من الشرطة العسكرية من كلا الجانبين. سرعان ما بدأ الصراخ وتعالى السُّعال وخرجَتِ الهراوات. في الجزء الخلفيّ من الحشد، بدأت الشرطة في دفع الناس - وفي أغلب الأحيان كانوا من المراهقين الصغار - إلى الأسفلت، وفي إحدى الحالات، رأيتُهم يقذفون القنابل ويدوسون على رأس راكب دراجة يمرّ من المكان لا علاقة له بالاحتجاجات. صديقي ذهب منذ فترة طويلة واختفى بين الحشود. أخبَرني من تبقى من منطقتي أن أضع نفسي في الوسط بين الشرطة والأطفال ورائي. حاولت ولكن لا فائدة؛ في غضون ثوانٍ كنت على الأرض أيضاً، وأُجبِرتُ على اتخاذ وضعية الركوع ورُبطتُ برباطٍ سحّاب. أتذكّرُ أنّه بعد أسبوع من الحادثة، كانت لا تزالُ ذراعي اليسرى وكتفي تؤلماني من وضعية الإعتقال. تذكرتُ فيما بعد أيضاً أنّه لم يقرأ أو يتلى على أيٍّ منّا حقوقنا أثناء الإعتقالات. تمّ تعبئة إثنين وعشرين شخصاً منّا في الجزء الخلفي من سيارة شرطة مصممة لعشرة أشخاص، جعل صيف نيويورك الرطب ودرجة حرارةٍ 32 مئوية الجوّ داخل الشاحنة جحيماً لا يُطاق. كانت إحدى السّجينات تعوي من الألم طوال الطريق لأن الرباط المشدود جرح معصمها. العديد منهم بدؤوا يفقدون الوعي وهم يكافحون من أجل الماء والأكسجين. فتاة صغيرة لا تزيد عن العشرين بكت بصمتٍ طوال الرحلة. سألتنا مرعوبةً عما سيحدث، وفي تلك اللحظة أدركنا جميعاً أنّنا بصدق لا نعرف. حاولنا أن نغمغم بابتذال واضحٍ حول كوننا على الجانب الصحيح من التاريخ.
عندما وصلنا أخيراً إلى مركز الشرطة ، قيل لنا أنّه بعد كل ذلك سيتمّ إصدار تذاكر مخالفة لحظر التجوال وإعادتنا إلى المنزل "خلال عشر دقائق" - هكذا قالوا لنا. بقينا في زنازين الحجز لمدة ستّ ساعات على الأقل، بينما بقي بعض رفاقنا إلى اليوم الثاني، وآخر بقي أسبوعاً كاملاً. دفعونا، كلّ أربعة في زنزانة هي بالأصل مخصّصة لشخص واحد. لم يتمّ تنظيف مرحاضنا أو حتى إفراغه. كلّ هذا ونحن في وسط جائحة كوفيد-19 ونيويورك تفقد مئات المواطنين اختناقاً كل يوم. زملائي في الزنزانة أعرفهم جيداً: أحدهم سائق بريد يعمل على درّاجة ومهاجر برازيليّ والآخر رجل في منتصف العمر يشبه النمر الأسود والرابع شابّ لاتيني يحتج للمرة الأولى. بعد ساعات من الإعتقال، طلب شخص في الزنزانة المجاورة لنا الماء - وكان الضبّاط المناوبون ملزمين قانوناً بذلك. تشجّعنا وفعلنا الشيء نفسه، لكن نفس الضابط تمتم بشيء عن عدم كونه ضابط اعتقالنا. لم نرى تلك الليلة أبداً قطرةً من الماء. بعد حوالي ساعة، تم إطلاق سراح أربعة سجناء كانوا في نفس الزنزانة، وبينما كانوا يمشون واحداً تلو الآخر، رأيناهم: لقد كانوا جميعاً من البيض والأمريكيين الأوروبيين. لقد استغرقنا كلّ ذلك الوقت لندرك أنّنا كنا مفصولين على أساس العرق حتى أثناء الإحتجاز. أعلم أنّه لا شيء من هذا سيبدو مفرطًا للجمهور اللبناني. كما لن يكون ذلك مفاجئاً للجمهور الأمريكي الأسود أيضاً. لكن بالنسبة للأمريكيين البيض، هذا ليس أقلّ من انزلاق أمريكا إلى الفاشية.
في مرحلة ما ، سألنا زميلي عما هو مشترك بيننا جميعاً. أجاب الآخر على الفور: "كلّنا طبقة عاملة". لقد كان محقاً. مرّ آلاف الشباب في الولايات المتحدة بنفس التجارب خلال الأسابيع الماضية. من خلال ما سمعته، كانت تجربتي الخاصة تجربةً معتدلةً إلى حدّ ما - ففي أمكنة أخرى قُتل المتظاهرون وتعرّضوا لاعتداءات جسدية وجنسيّة، وتشوّهوا بشكل دائم - هذا مع إهمال الحديث عن جميع أساليب الإرهاب النفسي المستخدمة أثناء الإعتقالات. ما المشترك بيننا؟ لقد سئمنا جميعاً - من رؤية دولاراتنا الضريبية تموّل عمليات القتل خارج نطاق القضاء بحق المواطنين السّود، ومن نظام الإستعباد الذي لم يتمّ إلغاؤه بل تم "إصلاحه" فقط. لقد رأينا مئة ألف شخص معظمُهم من الطبقة العاملة يموتون بسبب كوفيد-19 وأربعين مليوناً منّا فقدوا وظائفهم. لا يوجد سوى الكثير من التناقضات التي يمكن أن تظهر قبل طرح الأسئلة، قبل أن يخرج الناس إلى الشوارع، قبل أن يبدأ الناس في إلقاء أنفسهم في أي عملٍ ضدّ دولة غير مبالية بل معادية. الصورة النمطية القديمة التي تقول أنّ أميركا ليس لها يسار سخيفة - يسارُ الولايات المتحدة مكبوت بقوّة الإرهاب. إنّ أيّ بلدٍ يعاني من الظلم الكافي لا بدّ له من يسار. كلّ الدول لديها يسار.
صادف يوم اعتقالنا الذكرى الأربعين لاغتيال والتر رودني، العالم الماركسي الأسود الرائد الذي استشهد في سن الثامنة والثلاثين. أثناء احتجازي، حاولت أن أقتبس من عمله الأساسي "كيف تخلفت أوروبا عن إفريقيا" في محاولة لفهم أين كنّا. لا أتذكر إعادة صياغتي بدقّة، لكنّها لم تكن أنيقة مثل رودني نفسه الذي قال: "الفاشية هي تشوّه في الرأسمالية. إنّها تزيد من النزعة الإمبريالية نحو الهيمنة والتي نجدها متأصّلة في الرأسمالية، وتحمي مبدأ الملكية الخاصة. في الوقت نفسه، تعزّز الفاشية بشكلٍ مهول العنصرية الممأسسة التي وُلدت بفعل الرأسمالية.. الفاشية تقلب مكاسب النظام الديمقراطيّ البرجوازي مثل التعليم المجاني، والمساواة أمام القانون، والبرلمانات كما أنها تمجّد الاستبداد.."
مراراً وتكراراً في الشهرين الماضيين، تحولتُ إلى تألق مؤلفين مثل رودني وأنجيلا ديفيس وفريد هامبتون الذين يبدو من موقفهم الماركسيّ الأسود أنهم الوحيدون المستعدّون لفهمٍ مُجملٍ يجب على سؤال أين أصبحت الولايات المتحدة اليوم. نحن هنا ليس فقط لأننا طبقة عاملة، ولكن أيضاً لأنّ القسوة الأمريكية قد تجاوزت جنوب الكرة الأرضية وسكانها المستعمَرين ووصلت إلينا. إذن، من سنجد أفضل من البرونكسيين لقيادة اليسار الأمريكي الصاعد؟ من تلك النسوة السوداوات اللواتي يعتلين المنصات مع مكبّرات الصوت، يؤيّدها شبح برينا تايلور وجورج فلويد؟ طليعتُنا اليوم هم الملايين من الأمريكيين السود، القسم الأكثر تضرراً من تناقضات النظام الاقتصادي الرأسمالي ضمن الطبقة العاملة. وطالما استمرّت طليعتنا هذه في القيادة، فسيواصل بقيتنا القتال.
"Related Posts
استاذ محاضر في جامعة "نيو سكول" للدراسات الاجتماعية، نيويورك.